وجعٌ يحجّ إلى الكعبة: حُجّاج فلسطين بين الألم والتطهير الروحي

 وجعٌ يحجّ إلى الكعبة: حُجّاج فلسطين بين الألم والتطهير الروحي



       في موسمٍ تتزاحم فيه الأرواح على أبواب الرحمة، حمل حجاج فلسطين — من ذوي الشهداء، والجرحى، والأسرى — وجعهم الطويل معهم إلى مكة المكرمة. لم تكن رحلتهم كسائر الحجاج، بل كانت رحلة مختلفة في كل شيء: في المعنى، وفي الوجدان، وفي الدعاء. هي رحلة من قلب الألم إلى قلب الطمأنينة، من أرض تُقصف كل فجر، إلى بيتٍ يتنزل عليه السلام.

       ضمن مكرمة ملكية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، أُتيح لألف حاج وحاجة من غزة، والضفة، والقدس، أن يؤدوا فريضة الحج لهذا العام. هؤلاء ليسوا مجرّد حجاج، بل هم شهود على زمن القهر، وأبناء أرض ما تزال تنزف. جاؤوا لا فرارًا من الألم، بل ليغسلوه بدموعهم عند أعتاب الكعبة، وليُفرغوا قلوبهم من الثقل المزمن، ويُحمّلوه للسماء مع كل دعاء، وكل دمعة، وكل تكبيرة.

       في مكة، امتزجت الأرواح المتعبة بروحانية المكان. كل خطوة على صعيد عرفات كانت تفتح في القلب جرحًا، لكنها كانت أيضًا تزرع فيه شفاءً. كان شعورهم بالحج أشبه بتطهيرٍ داخلي من أوجاع لا تُرى، ومن ندوبٍ لا تُشفى. رفعوا أيديهم إلى السماء، لا يسألون الدنيا، بل يسألون الله أن يتغمّد الشهداء برحمته، وأن يشفي الجرحى، وأن يربط على قلوب الأسرى في سجون الاحتلال، وأن يُعيد الأمن والسلام إلى كل شبر من أرضهم المحاصرة.

🔸 الحج كعزاء وطني

       بالنسبة لهؤلاء الحجاج، لم يكن الحج مجرّد أداء فريضة، بل كان نوعًا من العزاء الجماعي، والاحتضان الروحي. كثير منهم لم يخرج من غزة منذ سنوات، بعضهم لم يرَ النور خارج الحصار، لكنهم اليوم بين ضيوف الرحمن. هذه الرحلة حملت في طياتها رمزية كبيرة: فهي احتضانٌ سياسي، وإنساني، وروحي، في وقتٍ تتكالب فيه المحن على شعبٍ لا يزال صامدًا.

       العديد من النساء الفلسطينيات كنّ أمهات شهداء، أو زوجات أسرى. ورغم أن القلوب مثقلة، فإن الطمأنينة كانت تلوح في وجوههن، وكأن الدعاء في البيت الحرام أعاد ترتيب الألم داخلهن، بطريقة لا يقدر عليها إلا الله.

🔹 صور الشهداء في القلب

       ما إن تطلّ على وجوه الحجاج الفلسطينيين، حتى ترى هناك شيئًا مختلفًا. وجوه صامتة، عيون دامعة، وألسنة تلهج بالدعاء أكثر من أي كلام آخر. كل حاجٍ منهم يحمل في داخله صورة شهيد، أو جرح غائر، أو أسير ينتظر الحرية. ولذلك فإن مشاعرهم كانت مضاعفة، وطقوسهم كانت مليئة بالحسرة والأمل معًا.

       الحج، بالنسبة لهم، لم يكن فقط لقاءً مع الله، بل لقاءً مع مَن فقدوهم، مع أرواحٍ سبقتهم إلى السماء. وكأن الطواف حول الكعبة لم يكن طوافًا بالجسد فقط، بل بالذاكرة والمشاعر. وكأن السعي بين الصفا والمروة كان بحثًا عن عزاء ضائع، وعن أمل يُرمَّم في زحمة الدعاء.

من أرض الرباط إلى بيت الله

       هؤلاء الحجاج هم أبناء "أرض الرباط"، التي تعيش في خط النار، وتكتب كل يوم قصة جديدة من الصمود. لم يغادروا وطنهم لينسوه، بل حملوه معهم بكل تفاصيله، ليشكوا لله وحده ما لا يُقال. وكل سجدة لهم كانت ترفع الوجع، وكل دمعة كانت تسقي حلمًا بوطنٍ محرر، وأرضٍ تنعم بالسكينة، وأقصىً يرفع فيه الأذان دون خوف.

 كلمات أخيرة: حين يصبح الحج دواءً

       في موسم الحج، يشعر المسلمون جميعًا بالصفاء، لكنّ الفلسطينيين في هذا العام شعروا بشيء أعمق: شعروا أن الله لم ينسَهم. فالمكرمة الملكية لم تكن مجرّد تذكرة سفر، بل كانت رسالة وفاء، وعزاء حميميًا لكل أم شهيد، وكل زوجة أسير، وكل مصاب لا يزال يحمل الشظايا في جسده وقلبه.

       نعم، لقد وصلت أوجاعهم إلى الكعبة، لكنهم عادوا منها بقلوب مطمئنة، تحمل في داخلها يقينًا واحدًا:

أن من طرق باب الله لا يُرد، وأن في رحمته متسعٌ لفلسطين، كلها.

Comments

Popular posts from this blog