المحرم:فيه تتنزل الخيرات وتتجدد بطولات الأنبياء
المحرم:فيه تتنزل الخيرات وتتجدد بطولات الأنبياء
يعد شهر محرم أول شهر في التقويم القمري والتقويم الهجري الإسلامي، وقبل الإسلام في الجاهلية سُمي المحرم بـ"مؤتمر" أو "المؤتمر"، وأُطلق اسم المحرم على شهر رجب. هو ليس فقط أول شهر في التقويم، بل هو فجر جديد لمن أغلق الليل عليه أبواب المعصية. عظم الله هذا الشهر بنفحات عديدة، والفضائل والفيضات المتنوعة، يتجلى فيه شآبيب الرحمة وغزير المغفرة على كل عبد يحنو إلى تطهير قلوبهم من شوائب الذنوب والمعصية.وجعله الله أحد أشهر الحرم من الأربعة، قال سبحانه وتعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر... منها أربعة حرم"، وهي: ذو الحجة، ذو القعدة، رجب، وأخيرا المحرم، حيث حرم القتال والفساد على بساط المعمورة كلها.
سماه النبي صلى الله عليه وسلم "شهر الله"، وإضافته إلى الله سبحانه تدل على شرفه وفضله، لأن الله تعالى لا يضيف إلا الخواص.
ومن المؤكد أن أيام المحرم لا تخلو من بقع البركات وأمواج الفيضات، لكن في مقدمتها اليوم العاشر، المعروف بعاشوراء، الذي يتضمن في طياته المواقف الجليلة والحوادث التاريخية، من نجاح موسى إلى أضحية سبط النبي صلى الله عليه وسلم، الحسين، إعلاء لراية الحق دون الباطل في معركة كربلاء. وهي مدرسة تربوية تُدرس فيها كل مواد الأخلاق والقيم، وتُروض النفس على الثبات والعزائم والاستقامة والصبر والعدل والارتباط بالله في أحلك الظروف.
لماذا بداية الهجرة من المحرم؟
إن هذا أمر لا خلاف فيه، فالهجرة النبوية من مكة إلى المدينة حدثت في شهر ربيع الأول، وعلى الرغم من جعل المحرم سابقًا عليه في التقويم، فقد فُضل على باقي الشهور، حتى رمضان، لعدة وجوه؛ من أهمها أن المحرم هو أحد الأشهر الحرم الأربعة كما أشار الله تعالى في كتابه: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر... منها أربعة حرم"، والمحرم أحدها، تتنزل فيه بقع الخيرات وتتجدد البطولات, في الجاهلية أيضًا فُضل وعُظم، وحُرم فيه القتال والفساد. ثانيًا، في زمن عمر بن الخطاب، سنة 38 هـ، شاور الأصحاب في إجراء تقويم للأنشطة اليومية ولتخطيط الحوادث التاريخية، فاختار بعضهم ربيع الأول لبداية التقويم لأن الهجرة حدثت فيه، لكن رفض أكثرهم، قائلين إن الهجرة النبوية قد حدثت في ربيع الأول، لكن كانت بداية التحرك نحو الهجرة في المحرم، وكان المحرم رمزًا لبداية التحول والتخطيط لها.
ثالثًا، المحرم يلي ذو الحجة، أي بعد موسم الحج، حيث يرجع الحجاج في نهاية الشهر طاهرين نقيين، ويستعدون ليغوصوا في بحر تجري مياهه غاسلة لأكدارهم من الشر والسيئات، ويلتقطون دررًا من الرحمة ومرجانًا من البركة، وياقوت القرب من الله تعالى في أعماق ستكون مفتاح الجنة في يوم الجزاء وخلال هذا الشهر، طُرد أول عبد متكبر وأول معلم للشر، إبليس، وأُخرج من الجنة، وحُرّمت عليه.
فضل شهر المحرم
إنه أمر بديهي بشكل ملموس، أن المحرم هو شهر الله، إضافة إلى شرفه وفضله، واسم الله لا يُضاف إلا إلى الخواص من مخلوقاته، كما نُسب محمد، وإبراهيم، ويعقوب، وناقة صالح. ولما كان الشهر مختصًا بإضافته إلى الله تعالى، كان صوم العشر الأول ويوم العاشر من أبرز الأعمال المضافة إلى الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان، شهر الله الذي تدعونه المحرم"، ومن صام يوم عاشوراء غفر له ما تقدم من ذنبه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
وجدير بالذكر، أن كانت الأشهر الحرم أفضل الشهور بعد موسم رمضان، فإن صيامها كلها مندوب، بعضها مفتاح السنة الهلالية، وبعضها ختامها. فمن صام المحرم وشهر ذو الحجة، فقد افتتح السنة طاعة وختمها بالطاعة، وحقًا تُكتب له سنة كلها طاعة.
فمن كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فستغرق السنة كلها بالطاعة. ومن أطاع الله السنة برمتها، سيعطيه الله أجرًا في الدنيا وعيش الرفاهية والنعيم تحت ظل عرشه في يوم الجزاء. إن الله تعالى سهّل كل الأمور والأعمال، لكن التحري في سنة جديدة بعين جديدة يضاعف الأجر عند الله.
عاشوراء: اليوم العاشر من المحرم
يُعد يوم العاشر رأس الأيام في شهر المحرم، ويُطلق عليه "عاشوراء"، لأن الله أكرمه عاشر الكرامات الجليلة لهذه الأمة المحمدية.
أولها رجب، فضّله الله تعالى على سائر الشهور، كما فضّل الأمة المحمدية على سائر الأمم.والثاني شعبان، شرّفه على سائر الشهور، كما شرّف محمدا صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء.بعده رمضان، فضّله الله على الشهور كفضله على خلقه.رابعا ليلة القدر، خير من ألف شهر.خامسا يوم العيد ويوم الجزاء. بعده أيام العشر، يوم الأذكار لله تعالى و بالتالي يوم عرفة، صومه كفارة سنتين. ثامنا يوم الأزهر، وهو سيد الأيام.وأخيرًا يوم عاشوراء، صومه كفارة سنة. وعلاوة على ذلك، يوم عاشوراء هو سفينة تحمل الناس في طياتها، وتمر تحت ظلال الرحمة وأمواج المغفرة التي تشق غيوم الغفلة، وتعرض فرصة ذهبية لإعادة تشكل الذات.
إن الأعمال الصالحة فيه تتضاعف مضاعفة، بغض النظر عن نوعها.ومن صام يومه، غفر له ما تقدم من ذنبه، وكتب له عبادة سنين، ومن فطر مؤمنًا، فكأنما أفطر جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.ويُضاف إلى ذلك أن الله تعالى خلق السماوات في عاشوراء، وكذلك الأرض، وجبريل في مثل هذا اليوم، والملائكة كلها كذلك، وخلق اللوح فيه والقلم، وخلق أول النبيين آدم في يوم عاشوراء، وولد إبراهيم كذلك، ونزلت أول قطرة ماء من السماء فيه.ومن اغتسل في هذا اليوم، لم يمرض إلا بالموت. البيضاء لا محالة، فإن المنايا على الحوايا.
معركة كربلاء ودور الحسين بلسم الأمة
معركة كربلاء من أبرز الحوادث في صفحات التاريخ الإسلامي، التي دارت واحتدم أوارها بين سبط النبي -ص- الحسين -رض- ويزيد بن معاوية سنة 61 هـ، الموافق 12 أكتوبر 680 م في التقويم الشمسي، عندما رفض الحسين مبايعة يزيد، عالمًا أن الحكومة والسيطرة في يد الغاشم المستبد لن تصلح للأمة.
ولا غرابة أن أهل الكوفة لم يرضوا ببطانة يزيد، وما زالوا يرسلون الرسائل إلى الحسين -رض- لإخراجهم من بين أنياب الذئب الهالك. خرج الحسين من المدينة بمن معه إلى الكوفة، بعد سلسلة من الرسائل من أهلها له، لكن في مكان "القادسية"، وعلى بعد عشرة أميال من كربلاء، حاصره عبيد الله بن زياد وجحافل عظيمة — أربعة آلاف — تحت قيادة يزيد.
في أثناء ذلك أمر عمر بن سعد بأن يسلم الحسين نفسه ليزيد ويقبل بحكمه، لكن شبل الأسد يشبه أباه، ولا يقبل سلطنة الذئب على قومه. تجاهل الحسين قوله، وتوجه إلى كربلاء مع الجيش الذي سيُدمَّر، لأن الكفار حاصروه من كل جهة تحت قيادة يزيد بن معاوية.أغلق يزيد كل النوافذ وسد مجرى ماء الفرات في اليوم التاسع من المحرم على أهل البيت، وأمر عمر بن سعد بخمسمائة جندي لمحاصرتهم بعد أمر يزيد. في الليلة نفسها، أرسل الحسين أخاه العباس مع خمسين رجلًا ليملأوا الأوعية ماء، لكن الكفار بذروا الشوك في الطريق، حتى جرحوا أجسادهم وأرواحهم جميعًا.
في الليلة نفسها جاء ملك بني طي، "طرماح بن عدي"، وأمر الحسين بأن يذهب معه إلى قومه، ووعده بأن يعطيه جيشًا للقتال، لكن الحسين رفض بكل شجاعة، ورد قائلًا: "إن أهلي ما تركوني في أحلك الظروف وأصعب الحالات، فكيف أتركهم وحيدين على شفا الضريح؟".
أطلق الكفار السهم الأخير من كنانته
طلعت الشمس في يوم الجمعة، اليوم العاشر من المحرم، متضائلة، كأنها تبرد أشعتها الحمراء.السحاب واقف حزين، يدعو للنجاح، والأرض تطحن ظهرها رقيقًا في ميدان كربلاء لأهل البيت.وعندما فشلت المفاوضات، واندلعت الثورة بين المسلمين والكفار، لم يتجاوز عدد جيش الحسين رضي الله عنه مئة وأربعين أو مئتين وأربعين رجلًا، مقابل جحافل لا تُعد ولا تُحصى.
خرج الحسين يخطب بورقته الأخيرة: "يا أيها الناس، هل أنتم تجهلون بي أم تتجاهلون؟ أتغفلون أم تتغافلون؟
إني الحسين، سبط محمد، وأبي أسد الله، علي بن أبي طالب، زوج أفضل النساء، وبنت أشرف العباد، محمد، يحمده الملائكة كل حين، قد بشرني وأخي بسيادة شباب الجنة...". ثم نادى صارخًا: "يا شبث بن ربعي، يا حر بن يزيد التميمي، يا حجاج بن الحسن، أليس أنتم من أرسل الرسائل إليّ؟ وقررتم أن أتي إليكم؟ لكن لما أتيت، أنتم خالفتم وتجهزون لقتلي!".
نزل الحسين رضي الله عنه من ناقته، وركب الخيل مستعدًا للقتال. وفي أثناء ذلك، وقعت واقعة لا تكاد تُصدّق، لكن لا يمكن تجاهلها: حر بن يزيد، من عسكر يزيد بن معاوية، قد أسلم وتاب توبة نصوحة حين بلغت الحال مداها. لكن التوبة تُقبل ولو بلغت الروح الحلقوم. اجتلد الكفار وانحدروا على الحسين وجيشه كظلم يطغى على الفجر. قاتل المسلمون، وبذلوا أقصى جهودهم، وقاتلوا بشق الأنفس، لكن الكثرة غلبت القلة، وقُتل المسلمون جميعًا إلا قليلًا.
خرج مسلم بن عقيل من آل علي، وقاتل عسكر يزيد حتى قُتل، وهو أول رجل من أهل البيت يُقتل بيد الكفار في معركة كربلاء.
وخلفه عبد الله، فقاتل حتى قُتل، ثم محمد، وجعفر، وعثمان، قُتلوا واحدًا بعد الآخر. وشاهد الحسين ذلك كله بعينيه، حيث زلّت الروح من مكانها، وكادت تبلغ الحناجر. عيناه مبللتان بدموع فراق فلذات كبده وأبناء إخوته، فراق أهله جعله يتيم الدهر.
ورغم ذلك، قاتل وحده، وما قاتل أحد مثله في التاريخ. لكن السيل بلغ الزبى، وفقد السيطرة بهجوم العدوان، وأصيب بأكثر من ثلاثة وأربعين جرحًا في جسده بسيف ورمح.
حينها، أطلق سنان بن أنس السهم الأخير من كنانته، بطريقة بلطجية من العادات، فرمى رمحًا بسرعة البرق إلى صدر الحسين، فحلت السكينة والصمت في الجهات الأربع. سقطت الوردة الأخيرة من شجرة أهل البيت بعد أن هبت الرياح، وزلّ الإلهام من مقيله بضرب سيف البتار. وأُسر النساء، وأُخذن إلى الشام، متذللات من أهل البيت.
دور المسلمين في يوم عاشوراء
بعد كرّ الأيام ومرّ الأعوام، وفي سياق القرن الحادي والعشرين، يُحتفل بعاشوراء بطرق مختلفة، حسب الأديان والانتماءات.
أما المسلمون، فلديهم أفكار بلورة، يستقبلون عاشوراء بقلب مفتوح وبكل هوادة، لأنه يخفض جناح الرحمة والبركة لجميع الأمة.
المسلمون يجددون بطولات الأمة الإسلامية والأنبياء، كما أن الله نجّى موسى وقومه من بطش فرعون وأغرقه وجنوده في النيل، فصاموا شكرًا لله. وكشف الضر عن يعقوب، ورفع إدريس فوق السماوات، وقبل توبة آدم، وبرد النار على إبراهيم. وبكل المقاييس والتأكيد، ستقع الساعة في هذا اليوم بلا شك.
المسلمون أيضًا يصومون هذا اليوم، ذاكرين نعم الله، لكنهم يخالفون اليهود. فاليهود يصومون عاشوراء فقط، أما المسلمون فيتابعون صيام يومين متتالين: إما التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود".
أما بالنسبة للمسلمين الشيعة، فعاشوراء هو يوم الألم والحزن والأضحية.
يعتبرون أن الطقوس الحزينة والعزائية أفضل الأعمال في عاشوراء، ويحتفلون بالمآدب الحسينية — توزيع الطعام على الفقراء والمساكين مجانًا خلال هذا الشهر — والزينة والمظاهر الحسينية — تزيين الشوارع والساحات بالرايات السوداء والمصابيح المضيئة، ويضعون صور الحسين — وزيارة مقام الحسين في المحرم من أفضل وأهم الطقوس التي يؤديها المسلمون، ويزورونه من أنحاء العالم، خاصة من إيران والعراق ولبنان ودول أخرى، باعتقاد أن شهادة الحسين في ميدان كربلاء رمز للعدالة والاستقامة وتضحية للإسلام.
لكن في هذا الزمن، دخلت الخرافات والمبالغات، حتى أصبح بعض المسلمين الشيعة يعتبرون أن الطقوس الحزينة تعني السير في الشوارع بالتطبير واللطميات، ويحثون الناس عليها، ويجرحون أجسادهم جراحًا ظاهرة، بأسلحة وسيوف، لا لشيء إلا إظهار الطقس الحزين والعزائي.
ومن الحقائق التي لا تُنكر، أن بعض المسلمين السنيين قد قلدوا الشيعة وأخذوا هذه الأعمال الرذيلة والثقافة القبيحة، تاركين الأذكار، والأدعية، والأعمال الصالحة.
Comments
Post a Comment